هناك دول كثيرة عندما تصاب بأزمة ما، سواء أكانت اقتصادية أو عسكرية أو سياسية أو حتى اجتماعية، فإن هذه الدول للأسف الشديد لا تستطيع أن تخرج من تلك الأزمات، وبدلا من أن تستفيد تلك الدول من هذه الأزمات تجدها تتقوقع وتنهار ولا تستطيع العودة أو التغلب على تلك الأزمات وحتى لو خرجت من هذه الأزمات، فإنها لا تستفيد من تجربة الوقع فى فخ تلك الأزمة، والحقيقة أن تاريخ دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية مع الأزمات والكوارث طويل ونجاحها فى حل تلك الأزمات والكوارث، يجعلنى أتساءل: لماذا لا نتعلم من التجربة الأمريكية لحل أصعب الأزمات والكوارث؟
ولن أكون مبالغا إذا قلت إن حجم الأزمات التى مرت على أمريكا تقضى على أمم كثيرة، وتؤدى إلى انهيارها بشكل تام، ولكن هذا لم يحدث مع الولايات المتحدة الأمريكية، التى مرت بعدة أزمات استطاعت، كما يقول العالم «غورير» كتابه المعنون: Gorer.G: The American People,A Study in National Character, W.W. Norton,NY، الذى قدم رواية مختصرة عن التاريخ المأزمى الأمريكى، لنجد أن المؤشرات الأمراضية الأمريكية ممكنة التصنيف فى ثلاثة محاور مرضية هى: المحور الاقتصادى «البورصة تحديدا» والمحور السياسى «وراثة زعامة العالم الحر» والمحور الديموغرافى «الأقليات الداخلية»، فى المحور الأول تعود أولى الأزمات المالية الأمريكية إلى العام 1907 حين واجهت البورصة الأمريكية وضعية الخراب بسبب الضغوط لتحويل تغطية عملتها من الفضة إلى الذهب، وحدث حينها ما سمى بـ«الرعب فى وول ستريت» الذى أثار غضبة الجمهور الأمريكى، مما أجبر الإدارة على اتخاذ بعض الإجراءات التى أثبتت التجربة عدم فعاليتها، ثم كان بعدها صدور «قانون الاحتياط الفيديرالى» الصادر عام 1913، الذى اعتبره المواطن الأمريكى حماية له، إلا أنه ومع نشوب الحرب العالمية الأولى، تبين أن هذا القانون يعانى من ثغرات تسمح للمصارف الأوروبية باستغلال الاقتصاد الأمريكى، ثم توالت بعد ذلك الأزمات وصولا إلى الانهيار التام فى أزمة 1929 الشهيرة، ثم توالت عقب ذلك الإصلاحات الاقتصادية ومعها الأزمات المتسربة من ثغرات هذه الإصلاحات، حتى تكرس الإحساس بوجود متربصين متخفين جاهزين للانقضاض على الاقتصاد الأمريكى عندما تحين الفرصة، بل إن هؤلاء بدوا وكأنهم يختبرون قدرتهم على التسبب فى فوضى البورصات الأمريكية من وقت لآخر، مما انعكس على المواطن الأمريكى بنوع خاص من الخوف التوقعى، الذى يشبه الخوف من الحسد فى الثقافات الأخرى إلى حد بعيد، ولعل الخوف من الفقر الأمريكى يعود إلى هذا السبب، وليس إلى تحديد أوقات الإرضاع، كما فسرها غورير، ولقد كرست أزمة 1929 هذه المخاوف مرسخة شعور المواطن الأمريكى بأنه مجرد نقطة ماء فى المحيط الأطلسى، الذى يجلب معه العواصف التى لا يمكن للنقطة سوى أن تستسلم لها، من هنا كانت صعوبة إقناع الأمريكيين بتجاوز مبدأ الحياد والدخول فى الحرب العالمية الثانية. ولولا ردة الفعل الناجمة عن الهجوم على بيرل هاربر لما اقتنع قسم منهم بالمشاركة فى الحرب، كما أن هذه المخاوف التى لا تجد تعويضها إلا بالرخاء هى التى دفعت الأمريكيين للتظاهر ضد الحرب فى فيتنام، فهم غير مستعدين لتقديم التضحيات والمخاطرة بمستوى رفاهيتهم من أجل مكاسب استراتيجية باهظة الثمن وبعيدة عن الولايات المتحدة.
والواقع أن لهذا الإرهاب الأمريكى تظاهراته على مختلف الصعد «سنذكر بعضها فى الفقرات التالية»، لكننا نكتفى بذكر العارض الاقتصادى لهذه المخاوف، فنعود إلى ما سمى فى حينه بـ«الاثنين الأسود»، الذى وافق يوم الاثنين فى 19/10 /1987، حين بلغت خسائر وول ستريت 500 مليار دولار فى ذلك اليوم، فاجتاح الأسواق رعب كارثى أجبر الرئيس ريغان على التدخل شخصيا بالإعلان عن أن المؤشرات الاقتصادية الأمريكية قوية جدا ولا داعى للاستنفار...إلخ، لكن إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق دونالد ريجان كلها استنفرت لمواجهة هذه الكارثة التى تهدد بالتفاقم، وشارك الأكاديميون الأمريكيون بدراسة الوضع، فكانت الدراسات التى أعدت فى جامعات يال وكولومبيا وأريزونا أهم هذه الدراسات، وكان باحثوها مساهمين فى وضع التقرير الذى أعدته اللجنة التى ألفها ريغان لدراسة الأزمة، التى أصدرت التوصيات التالية:
1. إيلاء قدر أقل من الثقة لحكمة المستثمرين والانتباه إلى دوافعهم الفردية، مما يعنى تقييد حرية الاستثمار والخروج على مبادئ السوق. مما يشكل اعترافا «ضمنيا» بحاجة النظام الرأسمالى «السوق» للإصلاح.
2. إخضاع الأسواق المختلفة لرقابة فيديرالية مركزية واحدة، «وهو نوع من الحماية الذى ترفضه مبادئ السوق، حيث تشترط إلغاء الحماية بكل أشكالها».
3. استخدام آليات «قطع التيار» على غرار ما يجرى فى توزيع الكهرباء، وذلك للتحكم بالتقلبات السريعة، «لأن جنون السوق مرتبط بزيادة سرعة التقلبات»، وعلى هذا الأساس تم إقفال البورصة قبل نصف الساعة من موعده فى ذلك اليوم.
4. استخدام المبدأ السابق «قطع التيار» لوضع الحدود للأسعار «مما يعنى تدخل المراقبة المركزية فى تحديد هوامش- حد أدنى وحد أقصى لأسعار الأسهم- بما فى ذلك من قضاء على حرية السوق وتحويلها خفية إلى اقتصاد موجه على النمط الاشتراكى، «تولت الصناديق الاستثمارية لاحقا»، هذه المهمة لتصبح المتحكمة الكبرى بالشركات وبأسعار أسهمها – حول هذه النقطة تحديدا»، تتركز انتقادات جورج شوروش للرأسمالية، التى أودعها كتابه «أزمة الرأسمالية العالمية» الذى سنعرضه لاحقا.
وكان من الواضح لدى جميع المراقبين أن التحكم فى الاثنين الأسود لم يتم عبر هذه التوصيات والنصائح، وإنما هو تم عبر الآليات السوداء للتدخل فى السوق، وهى آليات تسمى بالسوداء بسبب لامشروعيتها ومخالفتها للأخلاقيات المعلنة، وغدا إن شاء الله نواصل البحث عن إجابة لسؤالى عن كيف نجحت الولايات المتحدة الأمريكية فى مواجهة تلك الأزمات وحلها والاستفادة منها، ولماذا لا تدرس مصر طرق وأساليب حل الكوارث والأزمات الأمريكية، لكى نستفيد من تلك الحلول لمواجهة الأزمات التى تواجهنا منذ أكثر من ست سنوات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة